ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام الحسن العسكري(ع) الذي ستمر علينا ذكرى ولادته في الثامن من هذا الشهر المبارك، شهر ربيع الأول، حين توجه إلى شيعته وقال: ” «أوصيكم بتقوى اللهِ والورعِ في دينِكم، والاجتهادِ للهِ وصدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ إلى من ائتمنَكم من برٍّ أو فاجرٍ، وطولِ السجودِ وحسنِ الجوار… فبهذا جاء محمّد(ص). فإنَّ الرجلَ منكم إذا ورِعَ في دينِه وصدقَ في حديثِه، وأدَّى الأمانةَ وحسّنَ خلُقَه مع الناسِ قيل: هذا شيعيٌّ فيسرُّني ذلك.. اتّقوا اللهَ وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودةٍ، وادفعوا عنّا كلَّ قبيح.. أكثروا ذكر الله وذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي(ص)، فإنّ للصلاة على رسول الله(ص) عشر حسنات… احفظوا ما أوصيتكم به واستودعكم الله واقرأ عليكم السلام”.
إننا أحوج ما نكون إلى الاستهداء بهذه الوصية والأخذ بمضامينها لنكون معبرين حقيقيين عن انتمائنا لهذا البيت الطاهر وعن التزامنا بالإسلام قولاً وفعلاً وأكثر وعياً وأقدر على مواجهة التحديات…
والبداية من معاناة اللبنانيين المستمرة على الصعيد المعيشي والحياتي والتي تزداد تفاقماً في هذه الأيام مع بدء العام الدراسي للأعباء التي باتت تثقل كاهل أهالي الطلاب لارتفاع الأقساط المدرسية والجامعية والكلفة العالية للقرطاسية ولانتقال الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم.
وهنا نأمل أن تكلل الجهود التي تبذل من قبل وزارة التربية الوطنية لفتح المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية بالنجاح وتزول العقبات التي قد تقف في طريقها لضمان مقاعد للطلاب غير القادرين على الدخول إلى المدارس والجامعات الخاصة.
ومع الأسف يأتي كل هذا التردي من دون أن يكون له صدى لدى من يديرون الواقع السياسي، فهم لا يكتفون بعدم إيجاد الحلول الناجعة التي تضمن إخراج البلد من حال التردي التي وصل إليها، بل يستمرون بما اعتادوا عليه من مد أيديهم إلى جيوب اللبنانيين الفارغة وغير القادرة على تحمل المزيد لتأمين احتياجات الخزينة التي فرغت بسبب الفساد والهدر الذي كانوا شاهدين عليه أو مشاركين فيه، والذي بدا واضحاً من خلال الموازنة التي أقرت وتركت أعباء إضافية على المواطنين. كذلك فإن الزيادات التي حصل عليها القطاع العام والتي هي من حقهم، فهي عندما أعطيت بيد أخذت باليد الأخرى إن من خلال الأعباء الضريبية التي أضيفت أو التي ستضاف بعد ذلك أو من خلال التضخم الذي قد يحصل والذي سيزيد في انهيار الليرة اللبنانية ويرفع الدولار الأميركي وفي ارتفاع الأسعار المستمر.
لقد أشارت الموازنة التي حصلت رغم أهمية إجرائها وبعض الإيجابيات التي حصلت من خلالها إلى مدى التنكر الذي يعيشه من يفترض بهم أن يكونوا تعبيراً صادقاً عن معاناة اللبنانيين، فهي لم تأخذ في الحسبان الأوضاع المعيشية السيئة للناس ولم تأت بناءً على خطة مدروسة للإنقاذ ولم تعالج الأزمات الملحة التي يعاني منها اللبنانيون.
إننا أمام هذا الواقع المزري والمأساوي، نعيد القول لكل من هم في مواقع المسؤولية أن يتقوا الله في الناس الذين أعطوهم قيادهم، بأن يخرجوهم من يأسهم لا أن يزيدوهم يأساً، وأن لا يدعوا هذا البلد رهينة شروط الخارج وتدخلاته وإملاءاته…
وهنا نعيد التأكيد على ما كنا قلناه سابقاً أنكم قادرون على إخراج البلد من أزماته إن قررتم أن تخرجوا من حساباتكم الخاصة ومصالحكم الفئوية ورهاناتكم الخارجية، وكنتم جادين في مسيرة الإنقاذ والإصلاح وخرجتم من سياسة إدارة الظهر لمعاناة الناس وآلامهم… وهناك في هذا العالم من يريد خيراً بهذا البلد ومن هو مستعد أن يساعدكم على ذلك.
ومتى حصل ذلك سيكون من السهل تأليف حكومة التي لا تزال أسيرة تجاذبات من بيدهم قرار تأليفها ومصالحهم ونأمل أن تزول، وعندها لن نصل إلى فراغ بات مؤكداً في موقع رئاسة الجمهورية لعدم إمكانية التوافق على اسم الرئيس أو مواصفاته في ظل التوازن في المجلس الحالي وعدم رجحان كفة فريق على فريق.
لقد كنا نأمل أن يستيقظ كل هؤلاء بعد كل الذي جرى مع المركب الغارق الذي خلف وراءه أكثر من 100 ضحية وأن يستفيقوا، ولكن مر هذا الحدث عليهم وكأنه لم يحصل، ومنهم من ألقى باللائمة على الضحايا أو على من أودعهم هذا المركب من دون أن يفكر هؤلاء في السبب الذي جعل الضحايا يستقلون هذا المركب في الوقت الذين كانوا يعرفون ما يمكن أن يؤدي إليه من مخاطر.
وهنا نشدد على أنه لا يكفي محاسبة المسؤولين المباشرين عن الحادثة من أصحاب المركب أو مافيات الهجرة وإن كان ذلك ما ندعو إليه لإيقاف مراكب الموت هذه، بل لا بد قبل كل ذلك من محاسبة أولئك الذين أوصلوا البلد إلى الانهيار والذي دفع هؤلاء المستضعفين الضحايا إلى الهروب من بلد أحبوه بحثاً عن لقمة عيش كريمة…
ونعود من جديد إلى قضية المودعين التي لا نريد لها أن تُنسى حرصاً على استعادة ودائعهم وعلى المصارف وحتى لا يتكرر ما حصل سابقاً ولو بطريقة أخرى.
وأخيراً، إننا أمام ارتفاع وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية وأمام غارات الموت التي يشنها هذا العدو على الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي مخيم جنين بالذات، وفي إفساح المجال للمستوطنين لكي يهاجموا المرابطين والمدافعين عن الأقصى وتدنيس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ندعو العرب والمسلمين إلى تحمل مسؤولياتهم في الدفاع عن هذا الشعب وعن مقدساته، ودعم صموده البطولي ورفده بكل ما يضمن له الثبات في أرضه والدفاع عنها، حتى تبقى هذه القضية على وهجها وقوتها وعنفوانها.