ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا رسول الله محمد بن عبد الله النبيّ الأميّ وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأخوة المؤمنون، ونحن على أعتاب ذكرى وفاة رسول الله (ص) لا بدّ لنا في هذه المناسبة من التعبير عن بالغ حزننا وألمنا لهذا الفقد المفجع للأمة والإنسانية لما شكلته من خسارة لشخصية عظيمة بهذا الحجم وكان لها هذا الأثر البالغ على مسيرة الإنسانية ولما احدثته من تحولات كبرى في مجرى التاريخ الإنساني بكل أبعاده الحضارية ونقلة نوعية عبّر الله تعالى عنها من خلال وحيه وكتابه العزيز بقوله: (ليخرجكم من الظلمات الى النور) ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ {المائدة/15} يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) والآيات وإن كانت تتحدث عن الدور والوظيفة المسندة إليه صلوات الله عليه واله ولكن أهمية هذا الدور وهذه الوظيفة يحكيان الخصائص التي يتمتع بها رسول الله (ص) حتى يتمكن من القيام بهما، وهي عملية التغيير الشامل للواقع وتأدية الرسالة التي حملها بوحي من الله تعالى، حيث لا يمكن تقييم أية شخصية حملت أية مسؤولية إلا من خلال معرفة أهمية الدور المسند لها، وأن عملية بهذه الابعاد والعمق وما تتطلبه من معرفة وإخلاص وكفاءة توازي هذه المهمة، ولذلك فإننا وبغض النظر عن ما جاء في القرآن الكريم من ذكر وتعداد المواصفات في حقّ رسول الله (ص) فإنه يكفي لمعرفة بعض الخصائص التي اتصفت بها شخصية الرسول من معرفة حجم المسؤولية التي كُلِّف(ص) أداءها والظروف التي تحيط بأداء هذه المهمة والصعوبات التي يجب تذليلها واجتيازها ليتمكّن من تحقيق هذا الإنجاز والقدرات التي يجب ان يمتلكها وتتطلبها هذه العملية.
ولذلك فإنّ التعرّف على هذه الشخصية ونعني بها رسول الله (ص) يتطلب الإحاطة بالرسالة التي كُلِّفَ حملها وهي رسالة الإسلام المتعددة الأبعاد المعرفية والتحديات التي تفرضها طبيعة هذه الرسالة التي هي الرسالة الخاتمة والتي تفترض تحديات مستمرة تفرضها طبيعة البشرية والأسئلة المتجددة والإشكاليات المختلفة الناتجة عن اختلاف الظروف والتطورات للحياة طالما استمرت الحياة البشرية والتي تستدعي ان يمتلك أولاً الثقة بنفسه وبما يدّعيه وأن تكون للرسالة التي يحملها القدرة على استيعاب كل هذه التطورات والأجوبة اللازمة لكل هذه الإشكاليات التي يطرحها التقدم البشري، والصفات القيادية التي تؤهّله ان يخوض عباب هذا التغيير الشامل ومواجهة التحديات الهائلة التي ستواجهه، لأنّ أي عملية تغييرية ستواجه معترضين ممن لا يناسبهم التغيير، والمواجهة ستكون مواجهة شاملة فكرية وعقائدية واجتماعية واقتصادية.
ولذلك فإنّ أي عملية تقييمة لشخصية الرسول (ص) ستكون قاصرة وغير مكتملة لتوقف ذلك ليس على استيعاب كل هذه الابعاد، وإنما على كل مراحل بقاء هذه الرسالة وصمودها أمام كل العوامل المضادة، وهذا ما لا يمكن لأي أحد استيعابه او استقراءه وسيقتصر الأمر على دراسة المراحل التي انقضت من حياة الرسالة وتكون عملية مستمرة ودائمة مع كل مرحلة تاريخية تقطعها هذه الرسالة، فهي عملية دائمة ومستمرة.
على أن القرآن الكريم تحدّث عن الصفات التي تميز شخصية رسول الله (ص) بعدد من الآيات الكريمة تارة وبذكر اسمه صراحة وبشكل غير صريح تارة أخرى، وصدّقها الواقع واعترف بها حتى اعداؤه، فمن هذه الصفات الأخلاق الكريمة التي مدحه الله تعالى بها: (وإنك لعلى خلق عظيم)، والمراجع لسيرته (ص) والتي حكتها كتب السير يجد من الأمثلة على ذلك ما لا يُحصى ومنها قوله تعالى: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)، ولقد ثبت أن عملية التحول الحضاري التي قادها صلوات الله عليه واتّباع الناس له وتأثّرهم به واجتماعهم حوله كان لامتلاكه هذه الصفة أثر كبير في ذلك ومنها الرحمة واللين، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) والقدرة الهائلة على استيعاب الناس وعدم التعامل معهم بكبرياء وتعالٍ، قال تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر)، ولقد قال (ص) عن ذلك (لقد أدّبني ربي فأحسن تأديبي).
فقد وضع الله تعالى فيه من الصفات ما تحتاجها القيادة الرسالية ومنها الصبر الذي واجه بهم التهم حيث اُتهم بالكذب والسحر وتولّى الله تعالى الدفاع عنه ونفي هذه التهم عنه (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً) ومنها الصدق (فانهم لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)، والأمانة ،وقد كان معروفاً بهاتين الصفتين قبل البعثة ويطلقون عليه الصادق الأمين، والحكمة وقد كانوا يلجؤون إليه في حل خلافاتهم لما يتمتع به من حكمة تتيح له حل الخلافات، والشجاعة، وقد أثبتت الوقائع التاريخية هذه الصفات حيث خاض أشدّ المعارك بعدد قليل من الأتباع، وقد قال عنه أمير المؤمنين (ع) : “كنا اذا حمي الوطيس لذنا برسول الله (ص)”، والكرم وغيرها من الصفات التي لا تجتمع في رجل واحد، إضافة الى الإخلاص لله تعالى ولرسالته، والمعرفة والعلم وهو الأميّ الذي لم يُعهد منه القراءة والكتابة فهو من العلم اللدني الذي قذفه الله تعالى في صدره، والمحاور الذي يلجأ الى الحوار مع الاخرين الذين يختلفون معه ويتمسك بالحكمة والموعظة الحسنة كما امره الله تعالى كما أمره الله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الى غير ذلك مما لا يمكن استيعابه من صفات وأخلاق عالية لا تدانى.
وقد استطاع (ص) بما يتمتع به من هذه الصفات والقدرات أن يخترق بدعوته بيوت زعماء مكة والمشركين من قريش لينتقل في مرحلة وجيزة نسبياً الى سائر جزيرة العرب وأن ينشر الإسلام وعقيدته في أرجائها رغم كل ما لاقاه من حصار وأذى وما خاضه من غمار الحروب التي فُرضت عليه خرج منها منتصراً، واستطاع في هذه الفترة القصيرة أن يبني أُسس دولة حضارية مع بداية هجرته الى المدينة تؤمن بالتعايش بين الأديان والمجموعات المختلفة على أساس ما سُمي بوثيقة المدينة لتشمل جزيرة العرب كلها، والتي كانت تحتوي مجموعات سكانية لم تقتصر على المشركين وإنما أيضاً على اليهود والنصارى، حيث أظهر كما ورد في القرآن الكريم احتراماً خاصاً لأهل الكتاب معتمداً معهم الحوار، لكن اليهود أظهروا الخيانة لوثيقة المدينة حيث كانوا أحد أخطر المجموعات التي ناوأت النبي (ص) والإسلام وظاهرت على قتاله والتآمر عليه، بينما عاشت النصرانية في ظلّ دولته بأمن وأمان وحرية، طبع هذا التعايش في بعض الأحيان الحوار الذي يظهر من القرآن الكريم أن الإسلام هو الذي دعا أهل الكتاب اليه (قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم).
كل ذلك في ظلّ ظروف شديدة الصعوبة تحكم واقع الجزيرة العربية من حيث الطبيعية الثقافية والسكانية حيث ينتشر الجهل والمعتقدات الخرافية والحروب القبلية، وأفضل من يعبّر عن هذا الواقع بشكل دقيق أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) حيث قال: “إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدا(ص) نَذِيراً لِلْعالَمِينَ وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِين وَفِي شَرِّ دار مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجارَة خُشْن وَحَيّات صُمّ تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَتَقْطَعُونَ أَرْحامَكُمْ، الاْصْنامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَالاْثامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ”.
لقد عبر بهم (ص) من هذا الواقع المظلم والمتخلّف الى أن يصنع منهم أمة عظيمة تحدّت أعظم إمبراطوريتين تحيطان بجزيرة العرب، ويضع أسس التحول الحضاري الكبير فسرعان ما سقطت هذه الامبراطوريات وتلقّف أهلها الإسلام بسرعة قياسية، هذا التحول الذي كان شاملاً على الصعيد الثقافي والعلمي والفكري وأسّس لتحول عالمي شامل حيث لا زال الإسلام يشكّل تحدياً كقوة روحية وثقافية قادرة على الإجابة على كافة الإشكالات وباباً لنجاة البشرية وإخراجها من هذه الظلمات الى النور.
إنّ كل ذلك يدلّ على عظمة هذه الشخصية الفذة والتي شكّل افتقادها خسارة للبشرية، ولكنها حكمة الله تعالى وسنته في خلقه التي لن تتخلّف (إنّك ميت وانهم ميتون)
قال أمير المؤمنين (ع) يرثي رسول الله (ص): “بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ. خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً. ولَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُوِن وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً وَالكَمَدُ مُحالِفاً وَقَلَّا لَكَ ولَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ، ولَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي أذْكُرْنَاَ عِنْدَ رَبِّكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِك. إنّ الصبر لجميل إلا عنك وإن الجزع لقبيح إلا عليك وإن المصاب بك لجليل وانه قبلك وبعدك لجلل. فالسلام عليك يا رسول الله حين ولدت وحين متّ وحين تُبعث حيا.
أيها الاخوة المؤمنون أعظم الله لكم الأجر بهذا المصاب الجلل وأحر العزاء لإمام زماننا الحجة بن الحسن (عج). جدير بنا أيها الإخوة ونحن نعيش هذه الذكرى الأليمة أن ندرك أهمية النعمة التي أنعمها الله علينا بنعمة الإيمان ، قال تعالى : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فالدين منة الله تعالى على الخلق وبه أخرجنا الله تعالى من الظلمات الى النور بهذا الرسول الذي منّ الله تعالى به على المؤمنين. فكان النموذج للشخصية الفذة التي تستحق الاتباع (ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). فهو الزاد الذي نتمكّن معه من تجاوز المحن التي تواجهنا في الحياة ويمدّنا بالقوة ويدفعنا الى التكافل والتضامن الذي نحتاجه لتوحيد جهودنا لنعبر مرحلة الأزمات وتقينا شر السقوط في اليأس والفشل.
إنّ التعاون بين القوى السياسية اللبنانية شرط ضروري للخروج من المحنة التي يعيشها الشعب اللبناني والتحديات التي تواجه لبنان في هذه المرحلة المصيرية، ولبنان اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة إنتاج نظام سياسي قادر على مواجهة التحديات وإعادة النهوض ليؤدي دوره الريادي والرسالي، وإن اختلاف الانتماء الديني لا يشكّل عائقاً أمام العيش الواحد بل دافعاً لتوحيد الرؤى من أجل حياة كريمة وآمنة ونموذجية.
إنّ الحاجة الملحّة اليوم هي في الوصول وبأقرب فرصة ممكنة الى تأليف حكومة تشكّل الأرضية اللازمة لمعالجة الأزمات التي تعصف بالبلد وتضغط على المواطنين، وعلى القوى السياسية الخروج من لعبة حافة الهاوية التي تؤدي الى توسيع الهوّة بين الأفرقاء المختلفين وتعقّد الحلول، مما يحتم ان يتوافقوا على انتخاب رئيس للجمهورية يحظى باجماع وطني يكون نتاج التشاور بين الكتل النيابية، فالاوضاع صعبة جداً والظروف التي يعيشها لبنان تستدعي جهداً استثنائياً وتنازلات متبادلة للحؤول دون الوقوع في الفراغ الرئاسي الذي يضر بمصلحة ولبنان ويربك أداء المؤسسات الرسمية ولا سيما الدستورية منها.
ونحن اذ نطالب اللبنانيين بالتكافل والتضامن الاجتماعي لتجاوز الازمات المعيشية المستفحلة التي تنذر بعواقب وتداعيات اجتماعية خطيرة، فاننا نتوجه بالشكر لكل من بادر ووقف مع لبنان في هذه الازمة الصعبة ونخص بالشكر الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مبادرتها بتقديم الدعم النفطي لرفع مستوى التغذية بالطاقة الكهربائية لعموم اللبنانيين، ونشكر حكومة العراق على دعمها وكل من يدعم لبنان، ونأمل ان تحذو الدول الشقيقة والصديقة حذو العراق وايران فتجسد تضامنها مع لبنان بتقديم الدعم المطلوب على كل المستويات للحؤول دون تنامي هجرة اللبنانيين المحفوفة بالمخاطر، والتي كان اخرها الفاجعة التي ازهقت حياة المهاجرين قبالة شاطئ طرطوس التي نتوجه باحر التعازي الى ذوي الضحايا ونسأل الله ان يتغمدهم برحمته الواسعة ويمن على الجرحى بالشفاء العاجل .