ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نقتدي بأمير المؤمنين عليّ(ع) فيما قام به، عندما جاء إلى المسجد فقير في وقت كان(ع) مشغولاً بالصّلاة، فراح الفقير ينادي بمن في المسجد أن يعينوه، فلم يستجب له أحد، وكاد يغادر المسجد بحسرته، فأشار عليه عليّ(ع) وهو راكع في صلاته أن ينزع من أصبعه خاتمه، وأن يستعين به في أموره.. فنزلت عندها الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، لتبيّن من خلالها أنّ الصفة الأبرز التي ميّزت عليّاً(ع) عند الله، وجعلت له الشّأن والموقع عنده وعند رسوله(ص)، هو حرصه على مساعدة الفقراء وإعانتهم حتى وهو مشغول في صلاته، فما كان يطيق أن يكون هناك فقير ولا يسعى لسدّ حاجته.
وفي ذلك دعوة للّذين يتولّون عليّاً(ع)، أن يتولوه في هذه الصّفة، فلا يمكن لمن يتولى عليّاً(ع) أن يدير ظهره للفقراء ولا يبالي بفقرهم وحاجتهم، بل أن يبادر إلى سدّها أو يسعى إلى من يسدّها.
ونحن إن وعينا ذلك، فإنّنا نستحقّ الانتماء إلى عليّ، لنبني مجتمعاً متعاوناً متكافلاً قويّاً وقادراً على مواجهة التحدّيات…
والبداية من هذه الأيام التي يشهد فيها لبنان قدوم أعداد كبيرة من المغتربين الذين لم تمنعهم عن ذلك الظروف الصعبة التي يعاني منها هذا البلد، وعدم توافر فرص العيش الكريم تلك التي يجدونها في البلاد التي هاجروا إليها، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا دواء…
ورغم سوء الإدارة والفساد الذي كان السبب في دفع الكثير منهم إلى أن يغادروا هذا البلد والإجحاف الذي لحق بهم عندما أودعوا فيه أموالهم ومدخراتهم وجنى عمرهم، وهم اليوم غير قادرين على الحصول عليها، وقد لا يستطيعون ذلك في المستقبل، وفي ذلك دلالة واضحة على مدى تعلقهم بأرضهم ووفائهم لهذا الوطن فهم لم يغادروه إلى غير عودة، ولم يتركوه في كل المراحل الصعبة التي مر بها، وقد أصبح واضحاً دور الاغتراب في الحد من تفاقم الأزمة في هذه الأيام العصيبة.
ونحن في هذا المجال، نحيي هذه الروح الوطنية والإنسانية التي هي ضمانة استمرار هذا الوطن واستقراره وقدرته على البقاء وضمان انتشاره ليكون حاضراً في كل الأماكن التي يتواجد فيها المغتربون.
وهذا ما يدعونا إلى أن نطالب الدولة اللبنانية بأن تكون وفية لأبنائها في المغتربات، وأن تكون حريصة عليهم في كل الأماكن التي يتواجدون فيها، حيث الشكوى من عدم وجود دور فاعل للدولة اللبنانية في المغتربات لتعزيز حضورهم وحمايتهم في الأزمات.
في غضون ذلك تستمر معاناة اللبنانيين لتحصيل أبسط مقومات حياتهم، في وقت لا تزال الدولة تنأى بنفسها عن القيام بمسؤولياتها تجاه مواطنيها، وحتى القيام بإدارة شؤونها وتيسير متطلبات العاملين فيها، بل هي مع الأسف تزيد من معاناة الناس في الضرائب والرسوم التي تفرضها تباعاً، وآخرها الدولار الجمركي من دون أن تأخذ بعين الاعتبار ما ستؤول إليه حالهم.
ونحن أمام هذا الواقع، لا زلنا على قناعتنا من قدرة الدولة على النهوض، عندما تقرر ن إصلاح ما فسد منها وخروج من يديرون الدولة من حساباتهم الخاصة ومصالحهم الفئوية والطائفية إلى حسابات الوطن كله والعمل معاً من أجل إنقاذ هذا البلد من الانهيار الذي وصل إليه وتداعياته الخطيرة على كل الصعد بدل التنازع وتقاذف الكرات ورمي المسؤوليات.
وقد بات واضحاً أن الباب إلى ذلك في هذه المرحلة هو تأليف حكومة جديدة كفوءة وقادرة على النهوض بأعباء هذه المرحلة وتحدياتها تحظى بثقة الداخل والخارج، وهو لن يتم بحكومة منتقصة الصلاحية والتمثيل والتحضير الجدي لانتخاب رئيس للجمهورية جامع للبنانيين بدلاً من تنامي الحديث عن الفراغ ومن يملؤه.
من ناحية أخرى، فإننا، وفي ظل التجاذب الحاصل على الصعيد القضائي، بعدما أصبح واضحاً عدم قدرة القضاء على التحرك بفعل الخطوط الحمراء التي غالباً ما تعطل دوره، فإننا ندعو مجدداً إلى ضرورة إطلاق يد القضاء في معالجة ملفات الفساد وسوء الإدارة والهدر في المال العام أو ما يتعلق بأمن البلد واستقراره، فلا يمكن أن يخرج البلد من أزماته أو أن يعيد ثقة العالم به من دون قضاء فاعل مطلق اليد والحركة، لكننا نريده القضاء النزيه والعادل والذي يتساوى عنده الجميع طوائف ومذاهب ومواقع سياسية وغير سياسية وليس هناك من هو ابن ست وابن جارية، وأن يكون بعيداً كل البعد من التدخلات السياسية وغير السياسية التي تفقده الصدقية والقدرة على تأدية دوره وتجعله في موضع التشكيك.
في هذا الوقت ينتظر اللبنانيون الأجواء الإيجابية التي يتم الحديث عنها حول مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، والتي نريدها أن تضمن حق لبنان في استثمار ثروته البحرية كاملة.
وقد أصبح واضحاً أنها جاءت بعد الجدية التي أظهرتها المقاومة في رفضها لسياسة التمييع للمفاوضات التي يتقنها الكيان الصهيوني.
ونحن نأمل أن تستمر هذه الإيجابية، لكننا لا ينبغي أن ننام على حرير، بل لا بد من الحذر من عدو تمرس الخداع واستغلال الظروف المؤاتية للحصول على مكاسب إضافية…
ومن هنا فإننا ندعو اللبنانيين أن يبقوا يقظين وأن يعملوا لحماية وحدتهم الداخلية وتعزيز مواقع القوة لديهم بدلاً من التصويب عليها، فلا يسمحوا للعدو أن ينفذ من باب أي خلاف يحصل بينهم يؤدي للتفريط بثروتهم التي هي حقهم وحق الأجيال اللاحقة.
ونبقى على صعيد القمة التي عقدت في طهران لمعالجة الأزمة السورية والتي نأمل أن تثمر عن نتائج إيجابية نراها قريباً، وتتصل بضمان وحدة سوريا واستقرارها ومنع التدخلات الخارجية التي تنتقص من سيادة هذا البلد ومن قدرته على الاستفادة من ثرواته ومن استمرار العدو الصهيوني باستهدافه والتي كان آخرها ما حدث فجر اليوم.
ونتوقف عند ما يجري في العراق، لندعو العراقيين إلى تعزيز الوحدة فيما بينهم ومنع أيادي الفتنة أن تمتد إليهم وتؤدي إلى انقسامهم، في وقت هم أحوج ما يكونون إلى تراص الصفوف لإتمام الاستحقاقات إن على صعيد رئاسة الحكومة أو تأليف حكومة جديدة تحظى بثقة الشعب العراقي، ومعالجة الأزمات الكثيرة التي يعاني العراق منها، أو لمواجهة تدخلات الخارج وآخرها القصف الذي أودى بالعدد الكبير من الشهداء والجرحى.
وأخيراً أتقدم بالتهنئة والتبريك من طلابنا الأعزاء في لبنان وخصوصاً طلابنا في مدارس جمعية المبرات الخيريّة الناجحين في الامتحانات الرسمية للشهادة الثانوية الذين حققوا النتائج الباهرة وحصدوا المراتب الأولى.
كما أشكر القيمين على هذه المدارس من مديرين ومعلمين وإداريين وأهالي الطلاب على جهدهم وتعبهم طيلة العام الدراسي، متمنياً أن يكون هذا النجاح مقدمة لإنجازات أخرى، وبارقة أمل لمستقبل واعد لهذا الوطن.