ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام جعفر الصادق(ع) لأحد أصحابه وهو عبد الله ابن جندب، حين قال: “يا ابْنَ جُنْدَبٍ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُنَا أَنْ يَعْرِضَ عَمَلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ مُحَاسِبَ نَفْسِهِ فَإِنْ رَأَى حَسَنَةً اسْتَزَادَ مِنْهَا وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ.. يَا ابْنَ جُنْدَبٍ الْمَاشِي فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَالسَّاعِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَاضِي حَاجَتِهِ كَالْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. يَا ابْنَ جُنْدَبٍ بَلِّغْ مَعَاشِرَ شِيعَتِنَا وَقُلْ لَهُمْ لَا تَذْهَبَنَّ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ فَوَاللَّهِ لَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الدُّنْيَا وَمُوَاسَاةِ الْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ شِيعَتِنَا مَنْ يَظْلِمُ النَّاسَ.. يَا ابْنَ جُنْدَبٍ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ سَبَّكَ وَأَنْصِفْ مَنْ خَاصَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ كَمَا أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ يُعْفَى عَنْكَ فَاعْتَبِرْ بِعَفْوِ اللَّهِ عَنْكَ أَلَا تَرَى أَنَّ شَمْسَهُ أَشْرَقَتْ عَلَى الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَنَّ مَطَرَهُ يَنْزِلُ عَلَى الصَّالِحِينَ وَالْخَاطِئِينَ”..
فلنستوصى بوصايا هذا الإمام والتي بها نعبر عن صدق ولائنا له، ولنكون أفضل وأكثر حضوراً في المجتمع الذي نعيش فيه وأكثر قدرة على مواجهة التحديات…
والبداية من المناسبة العزيزة التي مرت على اللبنانيين وهي عيد المقاومة والتحرير في ذكراها الثانية والعشرين…
هذا العيد الذي يأتي كل سنة ليذكر اللبنانيين بالإنجاز الكبير الذي تحقق لهم وبالقوة التي بلغوها عندما استطاعوا هزيمة أعتى قوة في المنطقة، والجيش الذي لطالما رسم في الأذهان الصورة الوهمية بأنه جيش لا يقهر…
لينعم بعدها كل اللبنانيين بنسائم الحرية والشعور بالعزة والإحساس بكرامة الانتماء لوطن لم يستجد أحداً حتى يحصل على أمنه واستقراره وحريته بل جاء بكد أيدي أبنائه.
إن على اللبنانيين أن يشعروا بالفخر والاعتزاز بأن هناك في هذا الوطن من لم يديروا ظهورهم لعدو احتل أرضهم والطامع في مياههم وثرواتهم… وكانوا في ذلك واعين أن هذا العدو لن يخرج بقرارات دولية ولا بتوسل الدول الكبرى الراعية له ولا بتقليب كف على كف، بل كما كان يريد بالاستسلام لشروطه المذلة…
إننا في يوم المقاومة والتحرير، نحيي كل من قدموا لأجل هذا الوطن الغالي والنفيس ولا يزالون حاضرين في ساحة المواجهة، وهم على استعداد أن يقدموا المزيد، ونستذكر في هذه المناسبة الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم ولم يبخلوا على وطنهم بأغلى ما عندهم، والجرحى الذي عانوا ومنهم لا يزال يعاني من هذه الجراح، ,الذين اكتووا بنار الأسر وكل الذين كانوا سنداً للمقاومين بتوجهيهم وكلماتهم ودعائهم وبأموالهم ومن كانوا كهفاً حصيناً لهم، وكل الذين صبروا وتحملوا ضيم الاحتلال وظلمه وغطرسته ولم يذلوا أنفسهم له.
إننا ندعو اللبنانيين إلى أن يحفظوا هذا التاريخ جيداً… أن لا ينسوه ولا يمحوه من ذاكرتهم وأن لا يسمحوا لأحد أن يشوه صورته لحسابات ضيقة أو يحمله أوزاراً ليس مسؤولاً عنها، أو اتهامات هو بريء منها…
إن الأمة الواعية هي التي تعتز بمن حرروا أرضها وترفعهم على الأكف وتحفظ لهم جميلهم وترد عنهم كل من يريد بهم سوءاً، ولا تقف عند ذلك بل تحميه وتراكم عليه ولا تطعن فيه، لا سيما في مواجهة عدو لا يزال يتربص بهذا البلد براً وبحراً وجواً ويتهدد ثرواته في وقت يجري المناورات على حدوده استعداداً لعدوان قادم.
إننا نعي جيداً هواجس بعض اللبنانيين ولا نتنكر لها، من أن يتحول سلاح المقاومة إلى غير وجهته أو أن يخل بالتوازن في هذا البلد، ولكن معالجتها لا تتم عن طريق الدعوة إلى إفقاد لبنان قوة ومنعة أثبتت جدارتها وقدرتها على حماية هذا البلد وشكلت توازن ردع مع هذا العدو، بقدر ما تتم عن طريق حوار ندعو إليه، ونراه إن حصل بروحية الحرص على سيادة هذا الوطن وحمايته يساهم في إزالة هذه الهواجس.
ونبقى على الصعيد المعيشي والحياتي الذي بلغ حداً لا طاقة للبنانيين على تحمله بعد الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار في السوق السوداء والذي بات بلا ضوابط والتصاعد المستمر في أسعار المحروقات والغاز ورغيف الخبز والتكاليف الباهظة لتوفير الكهرباء والدواء، وما بات يهدد قدرة القطاع الاستشفائي، في وقت يستمر الانسداد السياسي بعد تحول الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال من دون أن يتوفر لها إمكانات تؤهلها للقيام بالتخفيف من حدة هذه الأزمة، فيما تستمر التجاذبات على صعيد انتخاب رئيس المجلس النيابي وهيئة المجلس والخوف من عدم الإسراع في تشكيل حكومة جديدة تقوم بالمسؤوليات الملقاة على عاتقها لإنقاذ البلد..
ونحن في الوقت الذي نتساءل عن الأسباب التي أدت إلى هذا الارتفاع في الأسعار وما الذي يراد منه، فإننا ندعو إلى ضرورة معالجتها والإسراع في إنجاز الاستحقاقات القادمة وإزالة أية عراقيل سياسية أو غير سياسية من أمامها، فالمرحلة لا تتحمل الفراغ وليست مرحلة لي الأذرع أو عض الأصابع أو مرحلة مناكفات وصراعات وتسجيل نقاط، بقدر ما هي مرحلة إنقاذ شعب لم يعد قادراً على التحمل وبلد يتداعى وينهار، ولن تقف تداعيات ما يحصل على الصعيد الاجتماعي بل ستتعدى ذلك إلى الأمن الذي يخشى من اضطرابه وفقدانه…
وأخيراً، إننا نحيي مجدداً الشعب الفلسطيني على تصديه للاحتلال الصهيوني، ونحذر العدو من تداعيات استمراره بالعبث بالمسجد الأقصى وفرض أمر واقع له فيه كما يسعى، وندعو في ذلك إلى وقفة عربية وإسلامية مع الشعب الفلسطيني وقواه تكون بمستوى هذا الحدث، لمنع هذا العدو من الاستمرار بجرائمه في حق المسجد الأقصى وكل الأماكن المقدسة في القدس وفي سلب حقوق الشعب الفلسطيني.